العطر: رحلة في تاريخ العطور وصناعته

العطر: رحلة في تاريخ العطور وصناعته

"كانت الأشرعة الأرجوانية عطرة لدرجة أن رائحتها جعلت الريح تعشق." وأشار شكسبير في هذا الوصف إلى قصة أسطورية: أن كليوباترا، ملكة الرومان، قامت بصب الكثير من عطرها على أشرعة حتى يشم مارك أنتوني، الملك الروماني، رائحة الملكة قبل وصولها. يصل تاريخ العطور والكولونيا إلى حوالي 4000 سنة.

إذا كنت مهتمًا بمعرفة كيفية صنع عطر الملكة بهذه الدرجه من الفوحان، فستساعدك هذه المقالة. إليك تفاصيل صناعة العطور لأول مرة في العالم وكيف أصبحت مشهورة وشعبية.

تاريخ العطور في العالم؛ أين صنع أول عطر؟

فقد اعتبر حرق البخور كأول استخدام العطر في العالم؛ الطريقة التى تعود إلى 4000 سنة ماضية، في فترة حضارات بلاد ما بين النهرين. ولهذا السبب فإن أصل کلمة Perfume يعود إلى كلمة Fume والتي تعني الغاز والدخان.

ومن ناحية أخرى، استخدامات المواد العطرية كحرق البخور والأعشاب للطقوس الدينية كانت شائعة بين قدماء المصريين حيث آمنوا بأن حرق التوابل والمواد العطرية له الطاقة الإيجابية كما يرضي الآلهة ويستخدم كوسيلة للعلاج من الأمراض والتطيب الشخصي؛ لذلك، استخدموا حرق الصمغ والنباتات الجبلية في البيوت والمعابد. بينما لا تزال حرق النباتات العطرية والبخور شائعة حتى يومنا هذا.

أحد أنواع البخور الذي كان الكهنة المصريون يحرقونه في المعبد هو عود الكيفي(kyphi). كان مصنوع من 16 مكونًا: صمغ عدة أنواع من الأشجار، عشب السرو (نوع من العشب العطري)، النبيذ، العسل، السرو الجبلي، الزبيب وبعض المكونات الأخرى.

صناعة العطور في المصر

الطبقة الأرستقراطية والفراعنة ورجال الدين المصريين كانوا مغرمين جدًا بالعطور لدرجة أنه يستخدمون العطر في تحنيط الموتى. وكانت رائحة العطور المستخدمة في مقابر فرعون قوية وفواحة للغاية، لدرجة أنه عندما تم فتح هذه المقابر في عام 1897، تمكنوا علماء الآثار من شم الرائحة يطلق عليها "عطر الخلود". استخدم المصريون الكثيرمن الياسمين واللبان والزنبق الأبيض والعسل في صناعة عطورهم، ومن المثير للاهتمام أن هذه العناصر لا تزال من أهم المكونات في صناعة العطور.

وكانت كليوباترا، آخر ملكة مصر، تسترخي في الحمامات العطرية قبل أن تعطر نفسها بزيت اللوز المر والقرفة والياسمين. تعطير الشعر المستعار الاحتفالي بمخاريط عطرية من الحبر البلسمي كان تعتبرقمة الإناقة، كما تم تعطير الأوشحة. وكان هذا العطر مخصصًا لكبار الشخصيات في المجتمع، وكان الناس يكتفون أيضًا بزيت الخروع الممزوج بالأوريجانو أو النعناع.

تاريخ العطر في اليونان والإمبراطورية الرومانية

واستفاد الكريتيون والفينيقيون من خبرة المصريين في صناعة العطور ونقلوها إلى اليونانيين. حیث وتمكنوا من اكتشاف مواد عطرية جديدة مثل الزعفران بفضل تجارتهم الواسعة في جميع أنحاء الشرق الأوسط. و في تلك الفترة كان اليونانيون يعيشون ازدهاراً تجارياً وثقافياً، ما أدّى إلى تطوّر صناعة العطر حيث ابتكر اليونانيون أول العطور السائلة لاستخدامها على الجسم. وبالطبع كانت هذه العطور مختلفة تمامًا عن عطور اليوم. وفي الحقيقة كانت هذه العطور السائلة عبارة عن مساحيق عطرية تخلط بالزيت ولا يستخدم فيها الكحول. ومن خلال سحق النباتات العطرية والصمغ وغيرها من النباتات، وخلطها بالزيوت المختلفة، اكتشفوا طريقة جديدة لصنع العطور حتى يتمكنوا من استخدامها بشكل يومي.

بالنسبة لليونانيين القدماء، كانت المواد العطرية ذات قيمة مثل الذهب، لدرجة أنها تم أخذ العطور كغنيمة حرب أثناء غزو الإسكندر. كان اليونانيون مغرمين جدًا بالعطور وأنفقوا الكثير من الأموال لأجلها.

لذلك في القرن السادس، وبسبب ارتفاع تكلفة استيراد العطور إلى اليونان، منع الملك اليوناني استخدام العطور لتوفير نفقات البلاد. على الرغم من أن هذا الحظر لم يدم طويلا. وتدريجيا، أصبح اليونانيون خبراء حقيقيين في إنتاج السوائل العطرية. حيث استخدموا تقنية Enfleurage، وهي طريقة التشريب باستخدام الحرارة. ولقد نقعوا الزهور في مزهريات برونزية مملوءة بالزيت.

وفي الإمبراطورية الرومانية التي كانت مليئة بالروعة والحياة الفاخرة بینما لدى النبلاء والعائلة المالكة اهتمامًا خاصًا بالترف واستخدام العطور، فقد صنعوا شلالات من ماء الورد لتعطير الفضاء. بحیث أن الإمبراطور الروماني الملك نيرون حضر أنابيب كانت تتدفق فيها عطور متنوعة تدوم طويلاً ولها رائحة تشبه رائحة ماء الورد.

تاریخ العطر في اليونان

كان هناك أيضًا العديد من محلات العطور في روما القديمة و حي للعطارين يسمى "unguentarii".

وبحسب الألواح المسمارية المكتشفة فإن أول صانعة عطر في التاريخ كانت امرأة تدعى "تابوتي" عاشت في بلاد ما بين النهرين في الألفية الثانية قبل الميلاد، منذ حوالي 3200 عام. كما وُصف تابوتي بأنها كيميائية مسجلة وخبيرة في العطور.

أول عطر عربي

في القرن التاسع، كتب الكيميائي العربي أبو يوسف يعقوب الكندي كتابًا عن العطور بعنوان الترفق في العطر. والذي جاء فيه حوالي 107 طرق لصناعة العطور. والجدير بالذكر أن أول من ابتكر طريقة تقطير الزهور العالم الإيراني ابن سينا!

أوضح الكندي في كتابه "الترفق في العطر"، كما يعرف أيضاً بـ "كيمياء العطر والتصعيدات"، كيفية صناعة العطر، ومعداته وطريقة تقطير زيوت العطرية والأدوية من هذه الزيوت.

العطور العربية

العطور في عصر النهضة؛ بداية الإنتاج الاحترافي للعطور

قبل عصر النهضة، فقد الأوروبيون اهتمامهم بالعطور وحل محلهم البلدان العربية والإسلامية. كما ذكرنا سابقاً العالم الإسلامي ابن سينا كان من هو ابتكر بتقطير الورد بينما حصل على زيوت عطرية. بعد انتهاء الحروب الصليبية، عاد الجنود المسيحيون إلى إوطانهم في أوروبا مع التحف من الشرق الأوسط، وكان من بينها كمية كبيرة من العطور والزيوت الأساسية المختلفة.

لذلك يعد عصر النهضة فترة رئيسية في تاريخ العطور لأنه يمثل بداية الروائح العطرية التي أخذوها من العرب مثل العنبر أو الياسمين أو الفانيليا أو الكاكاو أو الفلفل أو المسك. في هذا العصر، يحب الناس، وخاصة الأغنياء، العطور القوية التي تدل على مكانتهم الاجتماعية، وكلما اقتربت من عصر التنوير، أصبحت الروائح أكثر رقة.

استورد البحارة العظماء منتجات عطرية جديدة من أمريكا والهند وتحسن جودة الزيوت العطرية بسبب التطورات في الكيمياء. وقد امتدّ اختراع العلماء الملسمين في تقطير العطورو استخلاص الزيوت العطرية إلى أوروبا في القرن الثاني عشر، وخاصة في عام 1221. وقد برع الإيطاليون في صياغته، كما تمكن المجريون من مزجه مع الكحول، وهي المادة التي لا تزال تستخدم في صناعته، وذلك عام 1370م بأمر من الملكة إليزابيث البولندية، زوجة الملك شارل الأول، وقد أُطلق على هذا المزيج اسم "ماء هنغاريا".

أصبحت البندقية وفلورنسا من بين مراكز تصنيع العطور الشهيرة في إيطاليا. قام العطار الإيطالي المسمى رينيه فلورنتين بتطوير صناعة العطور في إيطاليا. أنتج عطورًا برائحة الورد وزهر البرتقال والبرغموت الحصرية لكاترين دي ميديشي، وهي امرأة إيطالية ثرية. بعد زواجها من ملك فرنسا هنري الثاني، جاء فن صناعة العطور إلى فرنسا من إيطاليا.

الملكة كاثرين شغفت بالقفازات الجلدية أيضاً. وللتخلص من رائحة الجلود المدبوغة، كانت تضع عطراً خاصاً على قفازاتها. استعانت كاثرين من صانع العطور الإيطالي الشهير رينيه فلورنتين لصنع عطورها. بينما أمرت كاثرين ببناء ممرّاً سرّياً بين جناحها ومعمل العطر الخاص بها، لكي لا يتمّ تسريب أي معلومة حول تركيباتها الحصرية. و فی نهایة المطاف أدى هذا إلى تطور صناعة العطور في فرنسا.

تاريخ العطر في فرنسا؛ أكبر مصنع للعطور في العالم

وفي القرن السابع عشر، اعتقد الفرنسيون أن الماء یسبب فی انتقال الأمراض. ولهذا السبب اعتقد النبلاء الفرنسيون أن الإستحمام سيؤدي إلى مرضهم وموتهم. وقد وصل هذا الاعتقاد إلى درجة أن الملك الفرنسي لويس الرابع عشر، خلال حياته البالغة 77 عامًا، لم يذهب إلى الحمام إلا ثلاث مرات. استخدم خدم قصر الملك العطر لتعطير قصر فرساي لإخفاء الرائحة الكريهة الناتجة عن قلة النظافة في تلك الفترة.

أراد لويس أن تكون قمصانه معطرة دائمًا بالعطور الفواحة، وكان أحدها هو أكوا أنجيلي Aqua Angeli، الذي كان تركيبته وطريقة تحضيره معقدةً للغاية ويستغرق وقتًا طويلاً.

وكانت طريقة صنع هذا العطر كالآتي:

تم غلي خليط من خشب الصبار (اللب العطري للشجرة)، وجوزة الطيب، والستوراكس (نوع من صمغ الأشجار ذو الرائحة الحلوة)، والقرنفل، والجاوي (نوع آخر من صمغ الأشجار) في ماء الورد للطهي. ثم يرتاح هذا الخليط لمدة يوم وليلة، ثم يضاف إليه ماء زهرة الياسمين وزهر البرتقال وأخيراً بعض قطع المسك.

بعد الثورة الفرنسية، كان نابليون بونابرت إهتم بالعطر بشكل مبالغ فيه. وعلى عكس الملوك السابقين، بالإضافة إلى الاستحمام كل يوم، كان يستهلك أكثر من 50 زجاجة عطر كل شهر.

في القرن التاسع عشر، نشهد انتشار صناعة العطور وبداية الكيمياء المطورة. الفانيلين، الكومارين، الألدهيدات هي تلك التي يتم اختبارها في العطور في المختبرات، والتي تحدث ثورة في صناعة العطور وتثري هرم العطرية بنوتات جديدة. باستخدام المنتجات الاصطناعية، ظهرت أولى العلامات التجارية "الحديثة" الرئيسية. ويعود هذا الازدهار أيضًا إلى مصانع الزجاج الكبيرة التي أنتجت الزجاجات بكميات كبيرة وأدت إلى تطوير العطور الشهيرة مثل غيرلان وهوبيجانت وبيفر.

عطور فرنسية

وعلى الرغم من أن فرنسا لم تكن الدولة الأولى التي تم فيها صناعة العطور واستخدامها، إلا أنها أصبحت منتجة لأفضل وأشهر العطور في العالم. العطور الشهيرة مثل عطر ديور سافاج من ماركة ديور، كوكوتشانيل، نيناريتشي، كريد أونتوس، هيرميس، كابتن بلاك هي ماركات فرنسية مشهورة. تاريخ كل عطر في فرنسا له قصة تستحق الکشف. على سبيل المثال، يعود تاريخ عطر ديور إلى الوقت الذي لم يتبق فيه أي شيء تقريبًا باسم الموضة في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. في هذه الحالة، تمكن كريستيان ديور من إحياء صناعة العطور الفرنسية من خلال ابتكار أول عطر ديور تخليداً لذكرى أخته كاثرين ديور.

في الختام؛

شهد العطر وصناعته أكبر التغيرات والتطورات في الفترات المذكورة كما تطرقنا له في هذا المقال، فمنذ الخمسينيات وحتى اليوم، يمكن العثور على جميع أنواع العطور لدى الناس. من العطور الرخيصة والعادية إلى العلامات التجارية الفاخرة للغاية. اليوم، أصبحت عملية إنتاج العطور بسيطة جدًا وفي نفس الوقت متقدمة؛ بحيث يتم محاكاة رائحة النباتات النادرة صناعياً بطرق مختلفة وإتاحتها للجميع.

لقد كانت العطور جزءًا لا يتجزأ من حياة البشر منذ بداية الحضارة وحتى يومنا هذا. ترتبط حاسة الشم لدى الناس ارتباطًا مباشرًا بذاكرتهم ومشاعرهم الأخرى، كما أن الروائح الطيبة تُذكِّر الناس دائمًا بالذكريات الطيبة.

شاركنا رأيك

قم بتسجيل الدخول إلى حسابك المستخدم لمشاركة التعليقات والمراجعات، ثم اضغط على زر مشاركة التعليق.

۰ تعليقات لهذه المقالة

كن اول من يكتب سؤالاً